الوضع السياسي في المخلاف السليماني في القرن الثاني عشر الهجري :
خضعت مدن المخلاف السليماني وأوديته المشهورة تحت سيطرة عدد من أسر الأشراف الذين كانوا يديرونها على شكل إقطاعيات صغيرة ويكونون في الوقت نفسه زعامات عشائرية محلية ، كانت لأمرائها الزعامة الشاملة على المخلاف بكامل حدوده ، وكانت أسر الأشراف الحاكمة على علاقات بجيرانها من الشمال (أشراف مكة المكرمة) ومن الجنوب (أئمة اليمن) . حيث شهدت هذه العلاقات توترات نشأت عنها علاقات غير مستقرة ولا تسير في اتجاهات ثابتة ، فإن سادها الوئام مرة ، فالاقتتال يسودها مرات كثيرة .
كان الأشراف يستمدون شرعيتهم في حكم المخلاف من ارتباطهم التاريخي العميق لوجودهم في المنطقة، ومن الميراث السياسي المتمثل في حكمهم للمخلاف منذ القرن الرابع الهجري.
شهد القرن الثاني عشر الهجري سقوط دولة الشريف أحمد بن غالب في المخلاف والذي أشتهر بالظلم وقهر الناس ، فقد أرهق الشعب بالضرائب والمكوس ، وحكمهم بالحديد والنار ، وكان يوم خروجه يوم عيد وفرح عند سكان المخلاف .
كذلك شهد العام 1141 هـ أبتدأ حكم الأشراف آل خيرات للمخلاف ، وكان أول أمير منهم الأمير محمد بن أحمد آل خيرات ، وكان مقدمهم لبلاد المخلاف في أوائل القرن الحادي عشر الهجري من مكة بعد خلاف بين أشراف مكة . وأستمر الحال في حكم المخلاف لآل خيرات مع ما حصل بينهم من إقتتال وثورات من الأخ ضد أخيه ومن العم ضد أبن أخيه ، وكانوا يستعينون على بعضهم بالعسكر المرتزقة ، والذين عاثوا في البلاد فساد ونهبا وجوراً . الى أن دخل المخلاف السليماني تحت حكم الدولة السعودية الأولى عام 1225 هـ . ثم بعد سقوط الدولة السعودية الأولى على يد الجيوش المصرية عادت المنطقة الى زمن الصراعات والفتن والإحتراب .
عندها ظهرت دعوة الإمام محمد بن علي الإدريسي وأسس بها دولته التي لم تستمر طويلا بعد وفاته ، حيث صار الإحتراب والإقتتال بين ابنه علي وحاشيته وعمه الحسن ومناصروه . بعدها قيض الله لجزيرة العرب شيخها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود الذي وحد أرضها ، وجمع شتات قبائلها ، ونشر الأمن والأمان في ربوعها .
دخول قبائل الجعافرة في الدعوة السلفية ومبايعتهم لإمام الدولة السعودية الأولى .
في عام 1213 هـ عاد من الدرعية أحد أبناء منطقة المخلاف قادماً منها وهو الداعية الشريف أحمد بن حسين الفلقي الذي هاجر اليها لتلقي مبادئ التوحيد من منبع الدعوة السلفية ، عاد حاملاً رسالة تاريخية من الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود الى أهل المخلاف وكافة أهل تهامة يدعوهم الى إخلاص العبادة لله وحدة ونبذ البدع والشركيات من الاستغاثة بغير الله ، وعبادة القبور والذبح للتقرب لها ، وترك الصلاة والتهاون في شعائر الدين .
وعندما وصل الداعية الفلقي الى المخلاف سلّم الرسالة الى حكّام إمارات المخلاف، ولكنه لم يجد تجاوباً منهم، بل لمس من الجفاء ما حفزه على الابتعاد، فسار الى جهة ساحل الجعافرة لأن أهلة آنذاك بدو قليلو الاختلاط بغيرهم .
أستقر الفلقي في قرية الآثلة وأخذ يعلم أهل الساحل أمور دينهم ويرشدهم الى ترك ما هم عليه من البدع ، فأقبل الناس عليه وازداد التعلق به ، فكان يرسل الناجحين من طلابه مرشدين وداعين الى القرى التابعة لهم والقريبة منهم ، ومرت الأيام فاذا بالدعوة تنتشر في قرى الساحل وتستيقظ دعوة التوحيد في قلوب الناس بساحل الجعافرة ، ويعودون الى سلفية الدين الصافي ويتركون كل أنواع الشركيات والبدع ، وعمرت المساجد بالعبادة فلا تسمع الى تلاوة القرآن ودروس التوحيد ، وظهرت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصلح حال الناس وتآلفت القلوب وزالت المشاحنات والعداوات .
عندها أستقر الراي لدى أهل الساحل على معاهدة الداعية الفلقي على العمل بكتاب الله وسنة نبيه الكريم والبيعة بالسمع والطاعة للإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وخلع طاعة أمير المخلاف الأمير علي بن حيدر. وصلت الأخبار لصاحب صبيا الشريف منصور بن ناصر ابن عم أمير المخلاف بواقع الحال في ساحل الجعافرة وفي بيعتهم للإمام الدرعية، فرفع بالواقعة لأمير المخلاف علي بن حيدر، فوصله الأمر من الأمير بأن يرسل خراصاً لثمرة الزراعة الحاصلة لديهم، فإن أدوا زكاة محاصيلهم فذاك، وإن امتنعوا أقمنا عليهم الحجة بمنعهم الزكاة وقاتلناهم.
وصل الخراص الى ساحل الجعافرة فردوهم وقالوا لهم : إن زكاتنا ندفعها لإمامنا في الدرعية بواسطة الفلقي . عندها وجهة أمير المخلاف عاملة على صبيا بالتأهب لحربهم، فجمع الأمير ما لديه من جنود مرتزقة ، وكاتب عمه حمود بن محمد المقيم في إقطاعتيه بوادي تعشر للاشتراك في الحملة لتأديب الجعافرة.
وصل الأمير بما معه من جنود وخيل، ومعه عمه بخيله وعسكره الى الساحل وخيموا في قرية الحجرين غربي وادي صبيا، وهناك وافاه عامله منصور بن ناصر بما معه من جند وخيل من أهل صبيا.
علم الفلقي بهذه الحملة ووصلته أخبارها، فدعا بالنفير بين قبائل الجعافرة للجهاد، وناداهم للتجمع بقرية البطيح، فلبى الجعافرة نداء الجهاد وحشدوا رجالهم وسلاحهم ولم يتخلف منهم أحد.
بطبيعة الحال لم يكن للفلقي الوقت الكافي للاستعداد للمعركة ووضع الترتيبات لها، فهو رجل دعوة وليس رجل حرب كما هو الحال مع أمير المخلاف وعماله الذين أتقنوا الفروسية وتمرسوا بحروب الكر والفر، وحشدوا لهذه المعركة كل قواتهم وخبراتهم القتالية.
ولقلة خبرة الفلقي ومن معه من عسكر الجعافرة في فنون الحرب والقتال ، فقد أرتكب خطأ عسكرياً بدعوته للجند بالتحرك باتجاه مخيم أمير المخلاف دون عمل التقسيمات العسكرية المشهورة ، الميمنة والميسرة والقلب ، ولكن هي قوة الأيمان وصدق اليقين .
وصلت أخبار تحرك الفلقي وعسكر الجعافرة الى أمير المخلاف باتجاهه، فقسم الجيش الى ميمنة وعليها عمه حمود، ووضع الميسرة وعليها أبن أخيه عامل صبيا، وتولى هو بنفسه قلب الجيش.
وصلت جحافل الجعافرة الى أرض الحجرين والتحمت مباشرة بقلب الجيش، فثبت أمير المخلاف وهو يعلم أن الجناحين سيقومان بحركة الالتفاف المرسومة. وفعلاً تم ذلك وأطبق الجناحين على جيش الجعافرة وشدوا عليهم حتى أنهزوا وهربوا من أرض المعركة. أخذت خيل الأمير في مطارة المنهزمين بغية استئصالهم حتى أسدل الظلام ستوره فحال دون البقية الباقية التي نجت بعد كل جهد ومشقة ، وهرب الفلقي ومن بقي معه الى جهة أم الخشب ، ورجع الأمير الى قاعدته في أبي عريش .
كاتب الفلقي الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود بما حل به ومن معه من قبائل الجعافرة ، فوجه الإمام بأرسال حملة من الدرعية لتأديب أمير المخلاف واخضاعه بالقوة للدخول في الدعوة ، وهو ما تم فعلا بعد معارك وحوادث كثيرة لا مكان لإرادها هنا . ولمن رغب في معرفة تفاصيلها فليعود الى كتاب تاريخ المخلاف السليماني للشيخ محمد بن أحمد العقيلي رحمه الله .
الوضع السياسي في الحجاز في القرن الثاني عشر الهجري :
شهد القرن الثاني عشر الهجري تطورات سياسية متلاحقة ، حيث اشتعلت النزاعات بين أشراف مكة ، كل يحاول الاستئثار بحكمها لنفسه ولأولاده من بعده ، مما تسبب في إثاره حفيظة الآخرين من أسرته وأقاربه ، ودعاهم الى خوض معارك عدة ضد بعضهم البعض ، وضد بعض خصومهم المحليين من القبائل العربية المجاورة .
كانت أكبر هذه النزاعات والصراعات بين أكبر أسر الأشراف في ذلك الوقت من آل زيد وآل بركات من ذرية أبو نمي الثاني . حيث تبادلوا شرفة مكة على فترات متقاربة ، متنازعين حكم مكة ومتقاتلين بينهم للفوز بشرافتها. استمرت هذه الصراعات على امتداد القرن الثاني عشر الهجري وكانت سبب مباشرة لنزوح مجموعة من قبائل الأشراف من أراضيها في بلاد الحجاز باتجاه بلاد اليمن أو بلاد العراق، وهذا السبب هو ما أرجحه كسبب مباشر في انتقال ونزوح عقب الأمير صرخة بن إدريس من بلاد الحجاز الى بلاد المخلاف السليماني واليمن والعراق.